لم يتبق سوى ثلاث عائلات في المبنى الذي ترعرعت فيه وعشت
أيام طفولتي وحيداً منعزلاً عن أقراني ، فقد كنت وحيد لأمي التي لم تنجب غيري ، فكانت
تخاف علي من نسمة هواء قد تصيبني ، كان والدي قد تربى في حي القنوات الدمشقي وعاش
فيه ، فلم تطب نفسه أن ينتقل إلى حي يقع على أطراف دمشق ،مما زاد عزلته وانطوائه ولم
يحاول يوماً أن يتعرف على أحد من جيراننا.
كل ذلك اختلف
بعد اندلاع ثورة العزة والكرامة، فقد كنت في السادسة عشر من عمري عندما سمعنا عن استشهاد
شقيق جارنا بعد أن توفي تحت التعذيب على يد عصابات الأسد المجرمة ، حينها قرر والدي
أن يقوم بواجب العزاء ووقوفه إلى جانب جيرانه في أزمتهم.
لأول مرة رأيت التعاطف والتكافل والتلاحم فيما بينهم ، لقد
وحدهم المصير والهدف ،على الرغم من المحاولات الحثيثة من قبل النظام الغاشم لكسر الوحدة
الوطنية على مدى عقود طويلة كي يسهل عليه السيطرة على مقدرات الوطن وأن يحوله إلى مزرعة
يعمل المواطنون فيها كأقنان ليس لهم فيها حتى حق الحياة والعيش الكريم.
توالت الأحداث، وجاء اليوم المشؤوم بتاريخ الخامس من
تشرين الأول من عام 2012 عندما اقتحمت عصابات الأسد حي قدسيا بكامل عتادها وعديدها
من مرتبات الحرس الجمهوري فعاثوا فساداً وقتلاً وتدميراً.
كانت أصوات القذائف تنهال علينا كصوت الرعد المفزع، وكنا
جميعا قابعين في ذلك القبو المظلم الذي تفوح منه رائحة العفن النتنة ننتظر مصيرنا
المحتوم.
لقد شاهدت الخوف
في عيون الأطفال واشتممت رائحة الرعب تملئ قلوبهم ، طوال يومين متتاليين لم نأكل
سوى الخبز اليابس ولم نشرب سوى الماء الأسن.
فجأة توقفت القذائف عن التدمير ، وساد صمت رهيب يقطع
الأنفاس.
سمعنا أصوات أقدامهم تقترب منا شيئاً فشيئاً ، حبسنا
أنفاسنا ، وانتفخت عروقنا ، كنت اسمع صوت أمي تتمتم بآيات من القرآن الكريم ، وأرى
جارنا يحتضن أطفاله كأنه لم يرهم منذ زمن طويل ، وشاهدت آمنة ابنة الجيران تمسح
بيديها على رأس أخيها كي تخفف من هلعه.
لم يدم الصمت طويلاً ، فقد اقتحم ثلاثة من جنود الأسد
وأحدهم كان برتبة نقيب باب القبو وحطموه بأقدامهم ، ولقد كانت رائحة الموت تنبعث
منهم...
صرخوا فينا أن نقف جميعا ووجهنا إلى الحائط ...
لم تشفع صرخات الأطفال ......لم تشفع آهات الأمهات .....لم
يشفع بكاء الرجال....في رد وحشيتهم القذرة
انهالوا علينا بالضرب الشديد بكعب بنادقهم دون أي سبب.
ثم تعالت ضحكاتهم وصدى أصواتها في ذلك القبو اللعين كأنها
ضحكات شياطين انطلقت من غياهب جهنم.
اقترب أحدهم من آمنة وسحبها من يديها ... قال كبيرهم خذوها
...تعالت صرخات النساء .....بكى الأطفال ........ارتمت أم آمنة على أقدامهم
تتوسلهم أن يأخذوها بدلاً عنها ..... قام أبوها بتقبيل أرجلهم وأيديهم وتوسل إليهم
أن يخلو سبيل ابنته ..... فجائه الجواب سريعا مجلجلاً :
سنعلمكم كيف تتمردون على أسيادكم يا أنجاس.... سنعيدكم إلى
الحظيرة يا خنازير...
أرجوكم سأفعل أي شيء تريدون .......... سأكون عبد عندكم
......... سأنفذ أي طلب تريدون ...... فقط اتركوا ابنتي.
صرخ أحدهم في وجهه ........... اخرس وإلا اغتصبناها أمام
عينيك.
حاولت الالتفات كي أتكلم ، نظرت إلى أمي ، ورأيت عيناها الممتلئتان
بالدموع تتوسلان لي أن لا أتكلم ، لقد شعرت بغصة كبيرة ولم يخرج مني الكلام.
شعرت بجرح كبير .... كادت أحشائي أن تتمزق من شدة الألم ..كان
قلبي يعتصر من الحزن ...كاد عقلي ينفجر من الغضب ...وكادت روحي تتلاشى من العجز...
نظرت إلى آمنة ...... فوجدت في عينيها التحدي .... كانت
صلبة ......قوية ....... دموعها تنهمر على خديها بصمت غريب.
لم تنهار ........لم تنحني .........لم تتوسل أحداً
......
نظرت إلى والدها نظرة مودع وهو مرتمي بين أقدامهم......
كانت نظرة عظيمة ..... تقول فيها الكثير....
يا أبي ....لا
تحزن......... ما أنا إلا شمعة تضيء ما تبقى من نفق الحرية
يا أبي ....لا
تحزن........ فلا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر ولا بد للظلم أن ينتهي .
ثم نظرت إلي وأومأت برأسها .... لقد تعلمت الكثير من نظرتها
تلك ... ولن أنساها ما حييت
تعلمت العزيمة .... تعلمت الإخلاص.....تعلمت الصبر....
تعلمت التفاني .... تعلمت الإيثار ....تعلمت الإقدام ....... تعلمت الشجاعة
في تللك اللحظة ..........ولدت من جديد
اختفت آمنة ..... واختفى معها أصوات الشياطين
تاركين ورائهم عائلة مكلومة....وبيوتاً مدمرة..... وجثث
متفحمة ....وإرادة لا تكسر
أمسكت بيد أمي ... نظرت إلي ....رأت في عيني بريقاً
مختلفا ....لم ترى براءة الطفولة كما تعودت أن ترها في عينيي دائما ....لقد رأت
بريقا وتحدي وعنفوان.
قلت لها : سأذهب يا أماه لأقوم بما يجب أن أقوم به
نظرت إلي والدمعة تسيل على خدها وبسمة خفيفة على وجهها
اذهب يا بني .... اذهب ودافع عن شرفك وشرف أهلك وشرف
وطنك
اذهب وافتح باباً من أبواب النصر
وإن لم تعد فسأعرف أنك قمت بواجبك ، وسأكون فخورة بك وسأعرف
بأنك تنتظرني كي أوافيك ......ولن يطول انتظارك.
تقدمت خطوات باتجاه النور المتدفق باتجاهي ....وشعرت
بأنني أتقدم نحو غد مشرق نحو غد يعيد لنا عزتنا وكرامتنا المهدورة عبر عقود طويلة
من الزمن.
عاشت سوريا حرة أبية
السوري الثائر